في عالم تُقاس فيه الاستثمارات العقارية ليس فقط بالأرباح، بل أيضًا بالأثر الاجتماعي، لم يعد دور صناديق الاستثمار العقاري (REITs) محصورًا في امتلاك الأصول وتحصيل الإيجارات، بل أصبح يشمل مسؤولية أوسع: كيف تبني علاقة مستدامة مع المجتمعات التي تنمو داخلها مشاريعها؟ كيف تُصبح جزءًا من التنمية لا عبئًا عليها؟ وكيف تستفيد من شراكات مبتكرة مع الجهات العامة لتعيد تعريف دور العقار في الحياة الحضرية؟ هذه الأسئلة تُشكّل الأساس لفهم أهمية المشاركة المجتمعية والشراكات بين القطاعين العام والخاص (PPPs) في تعزيز أثر ونجاح صناديق الريت في العصر الحديث.
المجتمع كمستثمر غير مباشر في نجاح الريت
قد لا يحمل أفراد المجتمع المحلي أسهمًا في صندوق الريت، لكنهم بلا شك شركاء حقيقيون في مصير الأصول. فعندما يشعر السكان أن مشاريع الريت تتجاهل احتياجاتهم أو تُهدد نمط حياتهم، تتولد مقاومة اجتماعية تؤثر سلبًا على أداء العقار، وعلى سمعته، وعلى استقرار العوائد. بالمقابل، عندما تُبنى العلاقة على الشفافية والاحترام المتبادل، يتحول المجتمع إلى داعم طبيعي للأصل العقاري. ولهذا، يجب أن تبدأ صناديق الريت كل مشروع بحوار حقيقي مع السكان المحليين، من خلال جلسات استماع، وورش عمل تشاركية، واستطلاعات تقيس تطلعاتهم ومخاوفهم.
الشراكات المجتمعية: من دعم المدارس إلى بناء المستقبل
لا يُقاس تأثير الريت على المجتمع بعدد الوظائف المؤقتة التي يوفرها أثناء البناء فقط، بل بالأثر المستمر في مجالات مثل التعليم، والصحة، والنقل، والمساحات العامة. وقد أظهرت التجارب الناجحة حول العالم أن الريت الذي يستثمر في بناء مدارس مجتمعية داخل مشاريعه، أو يدعم خدمات الرعاية الصحية في الأحياء المجاورة، يخلق علاقة ولاء طويلة الأمد مع المجتمع، تنعكس في نسب إشغال أعلى، وانخفاض معدل تدوير المستأجرين، وارتفاع رضا المستخدمين. فكل استثمار اجتماعي يعود كقيمة اقتصادية ملموسة على المدى الطويل.
القطاع العام كشريك لا كجهة تنظيمية فقط
في كثير من الأحيان، يُنظر إلى الحكومات والبلديات على أنها جهات تُصدر التصاريح وتفرض الضرائب، لكن الواقع الجديد يفرض نموذجًا أكثر تشاركية. فالشراكات بين صناديق الريت والجهات الحكومية يمكن أن تنتج مشروعات ذات منفعة مزدوجة، مثل تطوير مساكن ميسورة التكلفة في مقابل الحصول على حوافز ضريبية، أو إنشاء بنية تحتية خضراء (كحدائق أو محطات طاقة شمسية) تخدم المشروع والمجتمع معًا.
من الأمثلة العالمية الرائدة، نجد صناديق REIT في سنغافورة وكندا تنفذ مشاريع ضمن شراكات ثلاثية الأطراف تشمل الحكومة، والمجتمع المدني، والقطاع الخاص، حيث تُقسَّم الأدوار والموارد بشكل يحقق الأثر الأوسع. ويمكن لهذا النموذج أن يُطبّق في السوق العربي عبر آليات مثل: تخصيص أراضٍ مملوكة للدولة لمشروعات الإسكان مقابل التزام بتوفير نسبة معينة من الوحدات بأسعار مدعومة، أو الدخول في عقود امتياز لتشغيل أصول عامة (مثل محطات النقل) عبر صناديق الريت.
المسؤولية الاجتماعية في جوهر استراتيجية الاستثمار
المشاركة المجتمعية ليست مشروعًا جانبيًا أو حملة علاقات عامة، بل يجب أن تُدمج في استراتيجية صندوق الريت منذ مرحلة تحليل الجدوى وحتى إدارة التشغيل. ويبدأ ذلك عبر إدراج مؤشرات قياس أداء اجتماعي (S-KPIs) ضمن تقييم نجاح المشروع، مثل: عدد فرص العمل المستدامة، نسبة المشتريات من الموردين المحليين، مستوى رضا المجتمع عن المشروع، ومدى دمج عناصر الثقافة المحلية في التصميم المعماري.
كما يمكن إنشاء لجان استشارية مجتمعية تتواصل مع إدارة الصندوق بشكل دوري، وتُبدي ملاحظاتها حول جودة الخدمات، وسلوك المستأجرين، وتوجهات التطوير. هذه اللجان تُشكّل حلقة وصل حيوية تعزز من فاعلية الصندوق في التكيّف مع التغيرات الاجتماعية، وتمنع التوترات قبل أن تتفاقم.
التكنولوجيا كجسر لتعزيز المشاركة المجتمعية
في عصر المنصات الرقمية، أصبح إشراك المجتمع لا يحتاج إلى قاعات اجتماعات تقليدية. يمكن لصناديق الريت إنشاء تطبيقات تفاعلية تُمكّن السكان من مشاركة آرائهم، تقديم شكاواهم، أو حتى التصويت على اقتراحات تطوير معينة. كما يمكن استخدام تقنيات الذكاء الاصطناعي لتحليل مشاعر المجتمع من خلال وسائل التواصل الاجتماعي، مما يوفر مؤشرًا مبكرًا على مستوى القبول أو التوتر. التكنولوجيا لا تُلغي البُعد الإنساني للمشاركة، بل تُسرّع وتُثري الحوار.
قيمة العلامة التجارية ترتفع عندما ينبض العقار بروح المجتمع
لم تعد المنافسة في قطاع العقارات تُحسم فقط بحجم الأصول أو فخامة التصميمات، بل أصبحت تُقاس بمدى الارتباط العاطفي والثقافي والاجتماعي الذي تنجح العقارات في خلقه مع البيئة المحيطة بها. فالمباني، مهما بلغت من روعة وتكنولوجيا، تظل صامتة ما لم تروِ قصصًا تنبض بالحياة والمشاركة والانتماء. وفي هذا السياق، باتت العلامة التجارية لصناديق الريت مرآة تعكس مدى قربها من المجتمع وقدرتها على أن تكون شريكًا حقيقيًا في تنميته، لا مجرد مستثمر عابر.
العقار الناجح هو من يشعر الناس بأنه يُشبههم ويحتويهم
الشركات الكبرى والمستأجرون المؤسسيون لم يعودوا يبحثون فقط عن موقع مميز أو مساحات مكتبية أنيقة، بل يضعون في أولوياتهم توافق العقار مع قيمهم في الاستدامة، والمسؤولية الاجتماعية، ودعم التنوع والشمول. فشركة تعمل في مجال التكنولوجيا الخضراء، مثلًا، قد لا تفضل التمركز في مبنى ضخم يستهلك طاقة بشكل مفرط أو يُهمل الخدمات المجتمعية المحيطة. بل ستنجذب أكثر إلى أصل عقاري يُدمج الألواح الشمسية، ويُخصص مساحات خضراء عامة، ويُظهر التزامًا فعليًا بدعم المجتمع المحلي.
هذه المعايير غير المالية باتت تُحدد القرارات الاستراتيجية للمستأجرين والمستثمرين على حد سواء. ومن هنا، فإن العقار الذي ينجح في تجسيد هذه القيم يُصبح ليس فقط أكثر جاذبية، بل أكثر استقرارًا، لأنه يخلق نوعًا من الولاء العاطفي والمهني بينه وبين مستخدميه وشركائه.
العلامة التجارية القوية لصندوق الريت تبدأ من الحي الذي يتواجد فيه
عندما يشعر سكان الحي أن مشروع الريت لا يُقصيهم بل يخدمهم — كأن يفتح مساحات عامة داخل المجمع السكني، أو يدعم فعاليات محلية، أو يخلق فرص تدريب وتشغيل حقيقية — تتغير نظرة المجتمع بالكامل تجاه الصندوق. هذا الانطباع الإيجابي لا يُقدر بثمن، إذ إنه يتحول إلى دفاع غير مباشر عن المشروع في حالات النزاع، وإلى تسويق تلقائي مستدام لا تملكه حتى أكبر وكالات الإعلان.
في المقابل، الريت الذي يُنظر إليه على أنه “كيان معزول” أو “كيان استثماري بارد” يواجه تحديات أكبر في كسب القبول المحلي، مما قد ينعكس في تأخّر التصاريح، أو صعوبة إدارة الأزمات، أو ضعف قدرة المشروع على التوسع في مناطق جديدة بسبب سمعته السلبية المجتمعية.
شراكات قائمة على القيم تولد فرص نمو منخفضة المخاطر
كلما كانت هوية الصندوق متجذّرة في دعم المجتمع، زادت قدرته على جذب شركاء استراتيجيين يتشاركون معه في الرؤية. فعند دخول السوق في مدينة جديدة، صندوق الريت الذي يمتلك سجلًا حافلًا في التعاون المجتمعي سيجد أبواب البلديات والجهات التنظيمية مفتوحة، كما سيلقى ترحيبًا من مؤسسات المجتمع المدني، وقد يحصل على تسهيلات إجرائية ومالية تميّزه عن منافسيه. وهذا النوع من التوسع يُعد من أقل أنواع النمو مخاطرة، لأنه قائم على الثقة والقبول المجتمعي، وليس فقط على القدرة المالية.
بناء القصص أهم من بناء الأبراج
ما يميز العقارات الأكثر استدامة اليوم ليس ارتفاعها المعماري بل عمقها الإنساني. فعندما يتحول مبنى إلى مساحة للتلاقي، أو مدرسة داخل مشروع سكني تُغيّر حياة الأطفال، أو حديقة تُمكّن العائلات من الترفيه والتواصل، يصبح هذا الأصل العقاري ذا قيمة حقيقية تتجاوز الإيجار والعائد.
وبالتالي، فإن نجاح صناديق الريت لا يجب أن يُقاس بعدد الأبراج التي تُشيّد أو المتر المربع الذي تُسيطر عليه، بل بعدد القصص التي تُروى داخل هذه المساحات، وبعدد الأرواح التي تُلامسها، والعلاقات التي تُبنى بفضلها.
السمعة الطيبة أصل لا يُسجّل في الميزانية لكنه يصنع الأرباح
القبول الشعبي، والدعم المجتمعي، والسمعة المتميزة في المسؤولية الاجتماعية، كلها أصول غير ملموسة لكنها ذات تأثير ملموس على الأرباح والتوسع. ففي الأسواق التنافسية، حيث يتقارب الأداء المالي بين الصناديق، تصبح هذه العناصر الفارقة الحقيقية في جاذبية الصندوق للمستثمرين، ووسيلة فعالة لفتح أسواق جديدة دون الحاجة لحملات تسويقية مكلفة أو تنازلات مالية كبيرة.
الرؤية الحديثة لإدارة صناديق الريت يجب أن تقوم على أن المجتمع ليس عائقًا يجب تجاوزه، بل فرصة استراتيجية يجب احتضانها. العقار لا يكون ناجحًا حقًا ما لم يشعر الناس بأنه خُلق لأجلهم، ويُعبّر عنهم، ويضيف إلى حياتهم معنى. الريت الذكي هو الذي يُراكم العقارات، لكنه في الوقت ذاته يُراكم الثقة، والانتماء، والدعم المجتمعي… وهي الأصول التي تبقى ثابتة في وجه تقلبات السوق، وتصنع الفرق الحقيقي في استدامة النمو والربحية.