في ظل التحولات العالمية الجذرية نحو مفاهيم الاستدامة والاقتصاد الأخضر، لم تعد ممارسات البناء التقليدية قادرة على مواكبة المتطلبات المتزايدة للأسواق العقارية والمؤسسات الاستثمارية المعاصرة. فقد أصبح من الواضح أن نجاح أي مشروع عقاري لا يعتمد فقط على موقعه أو تصميمه، بل على مدى توافقه مع معايير الاستدامة البيئية والاجتماعية والحوكمية، وعلى رأسها شهادات المباني الخضراء مثل LEED (الريادة في تصميمات الطاقة والبيئة)، وBREEAM (منهج تقييم الأثر البيئي للمباني)، وWELL (معيار رفاهية المستخدمين).
هذه الشهادات لم تعد مجرد أدوات اختيارية أو رمزية تزين واجهات المباني الحديثة، بل تحوّلت إلى مؤشرات موثوقة تُستخدم عالميًا في تقييم جودة الأصول العقارية، وقياس تأثيرها البيئي والاجتماعي، ومدى قابليتها للاستثمار طويل الأمد. وهذا ما جعلها عنصرًا محوريًا في قرارات التمويل والشراء داخل سوق صناديق الاستثمار العقاري (REITs) التي تتجه بشكل متزايد نحو تبنّي نهج استثماري مستدام ومتوافق مع معايير ESG.
تشير الأبحاث والتقارير الحديثة إلى أن المباني المعتمدة بشهادات خضراء تحقق أداءً ماليًا أقوى مقارنة بالمباني التقليدية، حيث تساهم في خفض تكاليف التشغيل من خلال تحسين كفاءة استهلاك الطاقة والمياه، كما أنها ترفع معدلات الإشغال بفضل الطلب المتزايد من قبل الشركات العالمية والمستأجرين الباحثين عن بيئة عمل صحية وفعالة، إلى جانب قدرتها على زيادة الإيجارات وقيمة الأصول السوقية، مما ينعكس بشكل مباشر على ربحية واستقرار صناديق REITs.
وعليه، فإن دمج المعايير البيئية المعتمدة عالميًا في القطاع العقاري لم يعد ترفًا أو توجهًا نخبويًا، بل أصبح ضرورة استراتيجية تفرضها التطورات الاقتصادية والتشريعية، ومطلبًا رئيسيًا لجذب الاستثمارات المؤسسية المحلية والعالمية. وفي هذا السياق، تبرز شهادات المباني الخضراء كأحد أبرز عوامل التميز التنافسي في سوق العقارات الحديث، وكمفتاح حقيقي لتحقيق نمو متوازن ومربح لصناديق الاستثمار العقاري في السنوات المقبلة.
ما هي شهادات المباني الخضراء الأكثر شيوعًا؟
-
LEED (Leadership in Energy and Environmental Design):
الشهادة الأمريكية الأكثر استخدامًا عالميًا، تركز على كفاءة الطاقة، جودة الهواء، المواد المستدامة، وتقنيات البناء الذكية. -
BREEAM (Building Research Establishment Environmental Assessment Method):
شهادة بريطانية تعتمد تقييمًا شاملًا لأداء المبنى البيئي بدءًا من التصميم حتى التشغيل، وتأخذ في الاعتبار إدارة المياه والنفايات، والموقع الجغرافي. -
WELL Building Standard:
تركز على صحة ورفاهية مستخدمي المبنى، من خلال تحسين جودة الهواء، الإضاءة الطبيعية، والنشاط البدني داخل المساحات.
ما تأثير الشهادات الخضراء على أداء صناديق REITs؟
1. زيادة قيمة الأصول العقارية
وفقًا لدراسة مشتركة بين JLL وWorld Green Building Council عام 2023، فإن المباني الحاصلة على شهادة LEED أو BREEAM حققت زيادة في قيمتها السوقية تراوحت بين 6% إلى 12% مقارنة بالمباني غير المعتمدة. وتنعكس هذه الزيادة مباشرة على تقييم أصول صناديق REITs، ما يرفع من قيمتها الإجمالية في السوق المالي.
2. تحقيق عوائد أعلى ومعدلات إشغال أفضل
تُشير بيانات تقرير “GRESB Real Estate ESG Benchmark” لعام 2023 إلى أن صناديق REITs التي تضم مباني خضراء ضمن محفظتها العقارية حققت معدل إشغال أعلى بنسبة 7%، ومتوسط إيجارات أعلى بنسبة 8-10%، مقارنة بالصناديق التي لا تُولي اهتمامًا لشهادات الاستدامة.
وذلك يعود إلى رغبة الشركات العالمية في استئجار مساحات داخل مبانٍ تلتزم بالمعايير البيئية، خاصة بعد تصاعد التوجهات نحو “الحياد الكربوني” واستراتيجية ESG العالمية.
3. خفض التكاليف التشغيلية وزيادة الكفاءة
تتميز المباني الخضراء بانخفاض استهلاك الطاقة بنسبة قد تصل إلى 30-40%، وتقليل استهلاك المياه بنسبة 20%، بحسب تقرير صادر عن US Green Building Council. هذا يؤدي إلى تقليل النفقات التشغيلية لصناديق REITs، ما ينعكس إيجابًا على صافي الدخل التشغيلي (NOI) ويعزز توزيعات الأرباح للمستثمرين.
شهادات المباني الخضراء كأداة لجذب الاستثمارات المؤسسية
باتت المؤسسات المالية الكبرى وصناديق المعاشات تضع الاستدامة كشرط أساسي عند توجيه استثماراتها في العقارات. وفي هذا الإطار، تُعد الشهادات البيئية عنصرًا حاسمًا في قرار الشراء أو الاستثمار في صناديق REITs.
ففي تقرير نشرته مؤسسة BlackRock للاستثمار في 2024، أكدت أن 78% من المستثمرين المؤسسيين يفضلون الاستثمار في صناديق تضم أصولًا معتمدة بيئيًا، معتبرين أن ذلك يُقلل من المخاطر طويلة الأجل ويُحسّن الأداء تحت الضغوط الاقتصادية.
أمثلة تطبيقية من السوق العالمي
-
صندوق Boston Properties REIT يمتلك أكثر من 90% من مبانيه معتمدة بشهادات LEED Gold أو Platinum، وهو ما ساعده على جذب مستأجرين من كبرى شركات التكنولوجيا والمالية، وحقق عوائد إيجارية ثابتة رغم تقلبات السوق.
-
Prologis REIT، الرائد في المستودعات اللوجستية، قام بتركيب ألواح شمسية على آلاف الأمتار من أسطح منشآته، وحقق بذلك توفيرًا سنويًا في الطاقة تجاوز 20 مليون دولار، ما انعكس على زيادة توزيعات الأرباح.
-
Mapletree REIT في سنغافورة، تركز على شهادة BCA Green Mark، واستطاعت أن ترفع تقييم مبانيها بنسبة 10% خلال ثلاث سنوات بفضل التزامها البيئي الصارم.
تقدم الأسواق العالمية نماذج رائدة لصناديق الاستثمار العقاري (REITs) التي تبنت معايير الاستدامة لتحقيق نتائج مالية قوية وجذب مستأجرين مميزين. فعلى سبيل المثال، يمتلك صندوق Boston Properties REIT أكثر من 90% من محفظته العقارية بشهادات LEED Gold أو Platinum، مما منحه ميزة تنافسية كبيرة في استقطاب كبار عملاء قطاع التكنولوجيا والخدمات المالية، وأسهم في الحفاظ على استقرار العوائد الإيجارية حتى في ظل التقلبات الاقتصادية. أما Prologis REIT، المتخصص في المستودعات والمنشآت اللوجستية، فقد قام بتركيب أنظمة طاقة شمسية تغطي آلاف الأمتار المربعة من أسطح منشآته، ما وفر له أكثر من 20 مليون دولار سنويًا في تكاليف الطاقة، وساهم بشكل مباشر في زيادة توزيعات الأرباح للمستثمرين. وفي سنغافورة، ركز صندوق Mapletree REIT على اعتماد شهادة BCA Green Mark للمباني، وتمكن خلال ثلاث سنوات فقط من رفع القيمة السوقية لعقاراته بنسبة تجاوزت 10%، نتيجة الالتزام البيئي الواضح والتحسينات المستمرة في كفاءة الطاقة والتشغيل.
فرصة التحول الأخضر في السوق المصري
ورغم أن السوق العقاري المصري لا يزال في المراحل الأولى من اعتماد معايير المباني الخضراء، إلا أن المؤشرات التنظيمية والاقتصادية الحديثة تعكس توجهاً واعداً نحو الاستدامة. فقد بدأت هيئة المجتمعات العمرانية الجديدة في إدراج اشتراطات بيئية ضمن معايير ترخيص المشروعات الكبرى، ما يفتح الباب أمام صناديق REITs المحلية لتبني نماذج استثمارية قائمة على الكفاءة البيئية وتقليل البصمة الكربونية. كما أن التوجه الحكومي لدعم التمويل الأخضر من خلال إصدار السندات الخضراء وتوجيه الاستثمارات نحو المدن الذكية مثل العاصمة الإدارية الجديدة والعلمين الجديدة والمناطق الساحلية المتقدمة، يوفر بيئة محفزة لتطبيق المعايير الدولية في تصميم وتطوير الأصول العقارية. إن إدماج مبادئ الاستدامة في استراتيجية صناديق REITs المصرية لا يعزز فقط الجاذبية الاستثمارية، بل يسهم أيضاً في خفض التكاليف التشغيلية وزيادة عمر الأصول، وهو ما سيُترجم في النهاية إلى زيادة العوائد وتحقيق قيمة مضافة للمستثمرين والمجتمع على حد سواء.