بين الأرقام والوجدان: كيف تُوازن العقارات بين تحقيق الأرباح وتوفير السكن الميسّر؟

في عالم يتسارع فيه إيقاع التطوير العقاري، وبينما تتصاعد ناطحات السحاب وتتنوع المشاريع الفاخرة، يبرز سؤال عميق يطرق أبواب العدالة الاجتماعية: هل يمكن أن تسير الربحية جنبًا إلى جنب مع…

في عالم يتسارع فيه إيقاع التطوير العقاري، وبينما تتصاعد ناطحات السحاب وتتنوع المشاريع الفاخرة، يبرز سؤال عميق يطرق أبواب العدالة الاجتماعية: هل يمكن أن تسير الربحية جنبًا إلى جنب مع الأثر المجتمعي؟ وتحديدًا، هل يمكن أن يُقيم المستثمر العقاري مشروعه على أسس ربحية دون أن يُغفل حق الفئات المتوسطة والمحدودة الدخل في الحصول على سكن ملائم؟ إن هذه المعضلة ليست مجرد جدلية أخلاقية، بل معادلة معقدة من الأرقام، السياسات، والقرارات الاستثمارية التي تعيد تعريف معنى النجاح العقاري. وبين وحدات الإسكان الميسّر التي تقاس بالأثر المجتمعي، وعوائد الأرباح التي تُقاس بالريال والدولار، تنشأ الحاجة لقراءة جديدة تضع كلا الجانبين تحت المجهر، ليس بهدف المفاضلة بينهما، بل لاكتشاف طرق الدمج والاتزان.

الربحية ليست عدوًا للعدالة: من مفاهيم الربح إلى المسؤولية الاجتماعية

من الخطأ أن يُفترض أن هدف الربح يتعارض بالضرورة مع الأثر الاجتماعي. فالمستثمر العقاري ليس مضطرًا للاختيار بين أحدهما على حساب الآخر، بل إن التفكير المبتكر يُمكّنه من المواءمة بين الاثنين. فعلى سبيل المثال، تشجع بعض الحكومات حول العالم المطورين على تخصيص جزء من مشروعاتهم كوحدات سكنية ميسّرة، مقابل امتيازات ضريبية، أو تسهيلات في تراخيص البناء، أو توفير أراضٍ بأسعار مدعومة. وهذا يفتح المجال أمام المستثمرين لتحقيق أرباح طويلة الأمد، مستندة إلى قاعدة جماهيرية واسعة ومخلصة، بدلًا من الاعتماد فقط على شرائح الصفوة ذات العدد المحدود.

الوحدة السكنية الميسّرة ليست رقمًا فقط: ماذا تعني وحدة واحدة على أرض الواقع؟

عندما يُذكر في تقرير ما أن مشروعًا عقاريًا ضم 500 وحدة سكنية ميسّرة، قد يبدو الرقم عاديًا للمستثمر أو القارئ، لكنه في الحقيقة رقم عميق الأثر. فكل وحدة تعني أسرة استقرت، وأطفالًا التحقوا بمدارس قريبة، وربما موظفًا استطاع أن يوفر ساعة يوميًا من التنقل ليستثمرها في تعليمه أو راحته. هذه الوحدة هي حجر أساس في دورة اقتصادية واجتماعية تُبنى حول الاستقرار، فكلما زادت هذه الوحدات، زادت فرص الحفاظ على النسيج الاجتماعي، وقلت الفجوة بين طبقات المجتمع، وارتفعت جودة الحياة في المدينة ككل.

مؤشرات الأثر المجتمعي: كيف نقيس “النجاح” خارج جداول الأرباح؟

في حين تُقاس ربحية المشروعات بعدد الوحدات المباعة، وسعر المتر، وهامش الربح، فإن تقييم الأثر المجتمعي يحتاج لمؤشرات من نوع مختلف. عدد المستفيدين من الإسكان الميسّر، نسبة الأسر المنتقلة من بيئات غير آمنة إلى مساكن مستقرة، عدد الأطفال الذين انتقلوا إلى مدارس أفضل نتيجة قرب السكن، نسب التوظيف المحلية بعد المشروع، جميعها مؤشرات غير مالية لكنها ذات دلالة اقتصادية واجتماعية لا تقل أهمية.

وهنا يظهر دور نماذج القياس مثل “العائد الاجتماعي على الاستثمار” (SROI)، الذي يُعيد تعريف العائد من كونه مجرد نسبة ربح إلى كونه قيمة مضافة للمجتمع، قابلة للقياس والتقدير، حتى لو لم تكن بالضرورة مالية مباشرة. فإذا ساهم مشروع ما في خفض معدلات الجريمة بنسبة 10% في منطقة معينة، فهذا إنجاز قد يفوق من حيث الأثر ما تحققه زيادة 5% في الربح النقدي.

دور التكنولوجيا في خلق تقاطعات بين الربحية والتأثير الاجتماعي

ظهور تقنيات مثل الذكاء الاصطناعي وتحليل البيانات الضخمة لم يعد حكرًا على الشركات التقنية، بل دخل بقوة إلى عالم العقارات. إذ أصبح بالإمكان الآن التنبؤ بالمناطق التي تحتاج إلى وحدات سكنية ميسّرة بدقة، وتحليل العائد الاجتماعي المتوقع منها، وحتى نمذجة التأثيرات على المدى الطويل. كل هذا يمكّن المستثمرين من اتخاذ قرارات مستنيرة لا تُغفل البعد الإنساني، دون أن يتنازلوا عن أهدافهم الربحية. كما ساعدت منصات التمويل العقاري الجماعي على إشراك الأفراد في تمويل مشاريع الإسكان الميسّر، ما أوجد نموذجًا ربحيًا جماعيًا يتشارك فيه المجتمع في صنع أثره الإيجابي.

التحديات الحقيقية: لماذا لا تزال المسألة معقدة؟

رغم الأمثلة الناجحة، تبقى المعادلة صعبة، إذ إن تكاليف البناء، وارتفاع أسعار الأراضي، وتشدد بعض التشريعات، تقف أحيانًا عائقًا أمام تنفيذ مشاريع إسكان ميسّر مربحة. كما أن النظرة النمطية لبعض المطورين تجاه الفئات المتوسطة باعتبارها غير مجدية اقتصاديًا، تُعيق التوسع في هذا الاتجاه. ولا ننسى أن بعض المستثمرين يعتبرون الأثر الاجتماعي رفاهية يمكن تأجيلها، في حين أن الحقيقة أن المشاريع التي تغفل عن هذا البُعد تواجه تحديات مستقبلية في الاستدامة والقبول المجتمعي.

حالات دراسية عالمية: من نيويورك إلى القاهرة، تجارب تستحق التوقف

في مدينة نيويورك، فرضت السلطات على المطورين تخصيص نسبة من كل مشروع سكني فاخر للوحدات الميسّرة مقابل زيادة الارتفاع أو الكثافة السكانية للمشروع، وهو ما حفز مطورين كبار على الاندماج في هذه المعادلة دون التأثير على ربحيتهم. وفي القاهرة، بدأت بعض الشركات العقارية بالتعاون مع صندوق الإسكان الاجتماعي لتوفير وحدات ضمن نطاق المجتمعات العمرانية الجديدة، مع دعم الدولة في تمويل البنية التحتية، مما جعل المعادلة الربحية-الاجتماعية ممكنة وواقعية.

العقار كمحفّز للعدالة: نظرة مستقبلية لما بعد الربح

إذا أردنا صياغة رؤية مستقبلية للعقار، فإنها لا يجب أن تكون محكومة فقط بالسوق والمنافسة، بل يجب أن تتحول المشاريع إلى أدوات لتقليص الفجوة الاجتماعية، وجعل المدينة أكثر احتواءً وتكافؤًا. فكلما اتسعت قاعدة المستفيدين من المشاريع، زادت فرص الاستقرار المجتمعي، وقلّت احتمالات الاضطراب، وارتفعت قيمة العقارات على المدى الطويل نتيجة تحسّن بيئة المعيشة ككل. وهذا يعني أن المستثمر الذكي ليس فقط من يجيد قراءة المؤشرات المالية، بل من يعرف كيف يصنع تأثيرًا حقيقيًا لا يُقاس فقط بالأرباح، بل أيضًا بالأثر الذي يتركه في حياة الناس.

 ليس المطلوب من كل مشروع عقاري أن يتحول إلى مؤسسة خيرية، ولا أن تُلغى مفاهيم الربح والعائد. لكن ما هو مطلوب فعليًا هو إعادة تعريف النجاح العقاري بحيث يتضمن شقًا مجتمعيًا واضحًا، وشراكات استراتيجية بين القطاعين العام والخاص، وأدوات تمويل ذكية، وتقنيات قياس دقيقة. وعندها فقط، يتحول العقار من سلعة إلى رسالة، ومن مشروع إلى حكاية نجاح تُروى، ليس فقط في تقارير الأرباح، بل في وجوه الأسر التي وجدت لنفسها مكانًا آمنًا تُسكن فيه أحلامها.

Egypt MLS, the Middle East’s leading MLS platform, is the first of its kind, powered by Arab MLS. Offering comprehensive real estate listings, services, tools and resources, we set the standard for excellence, blending innovative technology with industry expertise for an effortless experience.