لم يعد الاستثمار العقاري محصورًا في المراكز التجارية أو الأبراج السكنية. بل ظهر نموذج استثماري يجمع بين البنية التحتية المستدامة والعائد المستقر طويل الأجل، وهو “صناديق الاستثمار العقاري في مزارع الرياح” أو ما يُعرف بـ Wind Farm REITs. غير أن هذه الصناديق لا تُبنى جميعها على نفس القاعدة، فهناك فرق جوهري في طريقة امتلاكها للأصول، إما من خلال نموذج التأجير (Lease) أو نموذج التملك المباشر (Ownership). فما الفرق بين هذين النموذجين؟ وأيّهما يحمل فرصًا أكبر للمستثمر؟ وأيّهما يعزز من مرونة الصندوق واستدامته؟
نموذج التأجير: مرونة مع تقليل المخاطر
في هذا النموذج، تقوم صناديق REITs باستئجار الأراضي التي تُقام عليها توربينات الرياح من مالكيها الأصليين – سواء كانوا أفرادًا، شركات، أو حتى حكومات محلية – مقابل عقد إيجار طويل الأجل يمتد غالبًا لعقود. ثم تُعاد تأجير البنية التحتية أو حقوق استخدام الأرض إلى مشغلي مزارع الرياح، مثل شركات الطاقة أو مزودي الخدمات البيئية.
ميزة هذا النموذج تكمن في مرونته العالية وانخفاض رأس المال المطلوب للدخول، إذ لا تحتاج الصناديق إلى ضخ استثمارات ضخمة في شراء الأراضي، بل تكتفي بتأمين حقوق الاستخدام. كما يتيح لها التحرك بسرعة نحو مواقع جديدة، خاصة مع توفر عقود إيجار جاهزة أو عند انتهاء صلاحية العقود القديمة لدى المنافسين.
لكن، يظل التحدي في هذا النموذج هو مدى استقرار العائد، إذ قد ترتبط الإيجارات بمتغيرات السوق أو نجاح المشروع، ما قد يخلق نوعًا من التقلب في الدخل. كذلك، فإن غياب ملكية الأرض قد يقلل من القيمة الرأسمالية طويلة الأجل للصندوق، خاصة في حال انتهاء صلاحية التوربينات أو تطور التكنولوجيا.
نموذج التملك المباشر: هيمنة كاملة مع التزام طويل
على الجانب الآخر، يُمثل نموذج التملك الكامل استثمارًا أعمق وأكثر ارتباطًا بالبنية التحتية الفعلية. ففي هذه الحالة، تقوم صناديق REITs بشراء الأراضي المقامة عليها مزارع الرياح، وربما حتى التوربينات نفسها، وتُشغلها مباشرة أو تؤجرها لشركات تشغيل متخصصة.
الميزة الكبرى هنا تكمن في امتلاك الأصل العقاري بكامله، ما يعني قدرة أكبر على التحكم، وفرص أفضل لتحقيق عوائد رأسمالية مستقبلية، سواء من خلال إعادة تطوير الأصول أو إعادة استخدامها لأغراض طاقة متجددة أخرى. كما أن هذا النموذج يتيح للصندوق مرونة أكبر في التفاوض مع المشغلين أو إدخال تحسينات تقنية، دون الاعتماد على طرف ثالث.
لكن هذه السيطرة تأتي بثمن، وهو حجم الاستثمار الأولي الكبير، بالإضافة إلى مسؤوليات قانونية وتشغيلية إضافية، منها صيانة الأراضي، والتعامل مع المجتمعات المحلية، والامتثال للوائح التنظيمية البيئية، وهي مسؤوليات قد تزيد من التعقيد التشغيلي وتقلل من السيولة الاستثمارية.
الاختيار بين المرونة والملكية: قرار استراتيجي حسب طبيعة السوق
يعتمد اختيار الهيكل المثالي لصندوق REIT في مزارع الرياح على عدة عوامل؛ منها بيئة الاستثمار المحلي، وتوفر الأراضي، ومستوى النضج التكنولوجي، والأهم من ذلك: شهية المستثمرين للمخاطرة.
في الأسواق المتقدمة مثل أوروبا أو بعض ولايات أمريكا، قد يُفضل المستثمرون نموذج التملك نظرًا للشفافية العالية، وتوفر البنية التحتية القانونية، وسهولة تمويل المشروعات الكبيرة. أما في الأسواق الناشئة، فقد يكون نموذج التأجير أكثر جدوى، لتقليل الالتزامات الرأسمالية والحد من التعرض لمخاطر تقلب أسعار الأراضي أو النزاعات العقارية.
وهنا يظهر الدور الذكي لإدارة الصندوق؛ فبعض الصناديق تسعى إلى نماذج هجينة، تجمع بين التملك الجزئي والتأجير، بحيث تُمتلك الأراضي الاستراتيجية بينما تُستأجر المساحات الثانوية أو المستقبلية. هذا الدمج يمنحها توازنًا دقيقًا بين الاستقرار والمرونة.
الاعتبارات القانونية والتنظيمية: عامل حاسم في القرار
أحد الجوانب التي لا يمكن إغفالها عند الاختيار بين النموذجين هو الإطار القانوني. فبعض الدول تقدم حوافز ضريبية لصناديق تمتلك الأصول مباشرة، بينما تفرض رسومًا إضافية على عقود الإيجار طويلة الأجل. في حين أن دولًا أخرى قد تحد من تملك الأجانب للأراضي، ما يُجبر الصناديق على اعتماد نموذج التأجير.
إضافة إلى ذلك، قد تُحدد بعض القوانين نسب توزيع الأرباح أو تفرض شروطًا صارمة على استخدام الأراضي الزراعية أو الريفية في مشاريع الطاقة. لذا، فإن أي استراتيجية ناجحة يجب أن تكون مبنية على فهم دقيق للبيئة القانونية والتنظيمية، وليس فقط على اعتبارات الربحية أو التشغيل.
الأثر البيئي والاجتماعي: أكثر من مجرد استثمار
في عالم يتجه نحو التمويل المستدام، لم تعد صناديق REITs تُقاس فقط بعوائدها المالية، بل أيضًا بأثرها البيئي والاجتماعي. وفي هذا السياق، يوفر نموذج التملك المباشر فرصة أكبر لتنفيذ مبادرات مجتمعية، مثل تخصيص جزء من الأرباح للمجتمعات المضيفة، أو إقامة مشاريع تعليمية وصحية في القرى القريبة من مزارع الرياح.
أما نموذج التأجير، فرغم محدودية سيطرة الصندوق، إلا أنه يسمح بسرعة انتشار التكنولوجيا الخضراء في مناطق متعددة، مما يُسهم في تقليل البصمة الكربونية على نطاق أوسع.
مع تطور سوق الطاقة المتجددة وتزايد الطلب على استثمارات مسؤولة ومستدامة، قد يكون المستقبل لصناديق REITs التي تتبنى مرونة التفكير وتعدد النماذج. فالجمع بين ملكية الأراضي الرئيسية وتأجير المواقع الثانوية، أو حتى الدخول في شراكات مع هيئات محلية أو مجتمعات تعاونية، قد يكون هو الطريق الأمثل لتوازن العوائد مع الاستدامة.
ويبقى السؤال ليس فقط: “أي نموذج أكثر ربحية؟”، بل: “أي نموذج يُحقق أثرًا أوسع، ويضمن بقاء الصندوق في صدارة مشهد الاستثمار المستدام لعقود قادمة؟” — وهنا، تكمن المعادلة التي يجب على كل مستثمر ومستشار أن يحسن قراءتها.